من خُطَب التجييش الجهادية إلى المقابلات الإعلامية المصقولة، ومن العمل تحت راية القاعدة إلى تصدُّر المشهد، لا يمكن فهم الصعود اللافت لأبي محمد الجولاني دون التوقف عند دور أنقرة الحاسم في تمكينه وتعويمه.
في منطقة تتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية، برزت تركيا كلاعب مركزي في إعادة تشكيل الخارطة السورية عبر أدواتها المسلحة، وكان الجولاني هو الورقة الأهم التي وضعتها على الطاولة.
ما بدأ كعلاقة تساهل أمني وتحالف ظرفي، تحوّل إلى مشروع استثماري طويل الأمد: مشروع تحويل الجولاني من قائد لتنظيم إرهابي إلى “حاكم دمشق”، ومن أمير حرب إلى شريك يمكن التفاوض معه.
خطبةٌ مشبوهة
أبو محمد الجولاني، واسمه الحقيقي أحمد حسين الشرع، شقّ طريقه من صفوف الجهاد في العراق إلى قيادة فرع القاعدة في سوريا، ليؤسس “جبهة النصرة” عام 2012. لأعوام، تصدّر قوائم الإرهاب العالمية، وتورطت جماعته في مجازر، اغتيالات، وفرض أنظمة قمعية على السكان في المناطق التي سيطروا عليها.
لكن بعد عام 2016، بدأ الجولاني “عملية غسيل سياسي” ممنهجة، غيّر فيها اسم تنظيمه إلى “، وفكّ ظاهرياً ارتباطه بالقاعدة، وبدأ يرتدي البدلة بدل الزي الأفغاني. اللافت أن هذا التحوّل جاء متزامناً مع الانخراط العسكري التركي في الشمال السوري، وتحديداً في إدلب، حيث قامت تركيا بترسيخ وجودها العسكري عبر نقاط مراقبة، ثم بتحويل إدلب إلى ما يشبه “المنطقة المحمية” للجولاني.
إمارة برعايةٍ تركية
منذ 2018، هيمنت “هيئة تحرير الشام” على الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية في إدلب، وفرضت سلطتها عبر “حكومة الإنقاذ”، جهاز إداري تابع للهيئة يدير المعابر، الأسواق، التعليم، والقضاء. وبحسب تقارير موثقة من هيومن رايتس ووتش ولجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، فإن الهيئة مارست الاعتقال التعسفي، التعذيب، وتقييد الحريات الدينية والسياسية، في ظل صمت تركي مطبق.
تركيا التي تمتلك عشرات النقاط العسكرية في الشمال، والتي أدّعت أنها “تراقب خفض التصعيد”، لم تفعل شيئاً لمواجهة سيطرة الجولاني، بل ساعدته عملياً على ترسيخ سلطته عبر إغلاق الطرق أمام الفصائل المنافسة، ومنع أي هجوم محتمل عليه من قوات النظام السابق أو روسيا.
وبدل أن تكون إدلب منطقة نزاع معقد، تحوّلت إلى “حديقة خلفية” لتركيا، يسيّرها الجولاني كوكيل محلّي، ويديرها كسلطة أمر واقع، فيما تتدفّق البضائع من تركيا، وتُفتح المعابر تحت رقابة الهيئة، ويُسمح له بجني ملايين الدولارات عبر الضرائب والإتاوات.
المال والسلاح تحت العين التركية
أشارت تقارير ميدانية واستقصائية بوضوح إلى أن الدعم الذي تلقته الفصائل الموالية لأنقرة، من سلاح وتمويل، ينتهي جزء كبير منه في يد “هيئة تحرير الشام”، إما بشكل مباشر أو عبر صفقات مشبوهة مع “فيلق الشام” و”الجيش الوطني”، التابعين لتركيا.
المعابر الحدودية، مثل “باب الهوى”، خضعت بالكامل لهيئة الجولاني، وجنت منها عشرات الملايين من الدولارات سنوياً. ورغم أن هذه الأموال استخدمت في تمويل جهاز أمني أشبه بالمخابرات، ومؤسسات قمعية، لم تعترض أنقرة، بل حافظت على تدفّق الدعم بحجّة “الاستقرار”.
ووفق تحقيق نشره Der Spiegel عام 2022، فإن “تركيا تستخدم باب الهوى كأداة ضغط سياسي، وتحافظ على دور الجولاني كوسيط موثوق للعبور الآمن، مقابل إخضاعه الكامل للمصالح التركية.
ولم تكتفِ تركيا بالدعم الضمني، بل قامت أجهزتها الإعلامية، وبعض منصّاتها الدينية والسياسية، بتقديم الجولاني كرجل عقلاني، “متخلٍّ عن التطرف”، في محاولة لإعادة تأهيل صورته أمام المجتمع الدولي.
في تقرير سرّي مسرّب من الاستخبارات الفرنسية نُشر عبر Le Monde Diplomatique عام 2023، جاء فيه أن “الاستخبارات التركية شجعت الجولاني على تقديم نفسه كخصم لداعش وبديل معتدل عن القاعدة، وأوصت قيادته بفتح قنوات حوار مع وسائل إعلام غربية”.
التقرير نفسه يؤكد أن أنقرة قدمت تغطية لوجستية لتحركات قياديين في الهيئة داخل الأراضي التركية، بما في ذلك لقاءات مع وسطاء من أجهزة استخبارات أجنبية.
من جهة أخرى، وثّق مركز سينتوريون الأميركي للدراسات الأمنية أن ما لا يقل عن 30% من شحنات الذخائر التي سلمتها تركيا لفصائل “الجيش الوطني” انتهت في مخازن “تحرير الشام” عبر صفقات داخلية أو تسهيلات متعمّدة.
حاكم سوريا الجديد
بدت فكرة وصول الجولاني إلى سدة الحكم في سوريا ضرباً من الجنون، لكنه اليوم الحاكم الفعلي لشريط جغرافي واسع في البلاد، ساعده على ذلك ضعف المعارضة السياسية، وانهيار الدور العربي، وغياب مشروع سوري مستقل، لتصبح سوريا عبارة مناطق يحكمها وكلاء محليون، تحت النفوذ العسكري والسياسي التركي المباشر.
الجولاني، من وجهة نظر أنقرة، هو القائد “المنضبط”، الذي يمكن التحكّم فيه، والذي لا يشكّل تهديداً داخلياً، ويستطيع إخضاع السكان بقوة الأمر الواقع. أما تطرفه الماضي، فيمكن طمسه بالإعلام، وتسويقه عبر حملات “مكافحة الإرهاب” الكاذبة.
اهلا سهلا بكم
إيران تعلن نتائج أولية حول انفجار ميناء رجائي
وزير الدفاع الباكستاني يتحدث عن “توغل عسكري وشيك” من جانب الهند
“رويترز”: إسبانيا تعلن حالة الطوارئ