عُقدة تمُّوز.. لماذا يفشل الجيش الإسرائيلي في الحروب غير النظامية؟
محمد العربي16/11/2023|آخر تحديث: 16/11/202301:30 م (بتوقيت مكة المكرمة)
تُمثِّل غزة عُقدة خاصة بالنسبة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، فهي آخر القلاع الباقية لمقاومة الفلسطينيين ضد محاولات محوهم وتصفية قضيتهم، وهي تكتظ بفصائل المقاومة الفلسطينية التي باتت العدو الأول والتهديد الرئيس لتل أبيب. يبدو غريبا أن تنجح جماعات المقاومة محدودة التجهيز والتسليح في إيقاف الحياة وإلحاق الضربات بقوة نووية تملك واحدا من أقوى جيوش المنطقة -بل والعالم- بحسب الدعاية التي تروِّجها دولة الاحتلال باستمرار، خاصة أن الولايات المتحدة وأوروبا تصطفان إلى جانبها منذ تأسيسها (1)، غير أن هذا ما تقوله الوقائع المتلاحقة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية مرورا بفصول متكررة من المواجهات غير النظامية بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة في كلٍّ من فلسطين ولبنان.
تقول دراسات عسكرية أجراها مركز “راند” التابع للجيش الأميركي إن تحليلات محاولات الغزو البري لغزة منذ عام 2008 كشفت للقادة الأميركيين أن إسرائيل لم تتمكن في أي مرة من سحق المقاومة، بل كانت مُجبَرة في كل مرة على التكيُّف على أرض مدنية ذات طبيعة معقدة مع خصم محدود الإمكانات مقارنة بها. أما أخطر ما تمتلكه المقاومة -على حد وصف التقرير- فهو أنها خصم هجين قادر على الانتقال من الحرب غير النظامية أو حرب العصابات إلى الحروب التقليدية، وهي معادلة وضعت الاحتلال في مأزق إستراتيجي منذ 2008 (2).
قوة حماس العصيَّة على التدمير
من بين كل أدوات القوة التي تمتلكها حركة حماس تأتي الأنفاق على رأس التهديدات الأمنية لجيش الاحتلال، حيث تضم الشبكة الخاصة بها 1300 نفق تتفرع في متاهات تحت الأرض مسلحة بالخرسانة، ويبلغ طولها الإجمالي نحو 500 كيلومتر، ويصل عمق بعضها إلى 70 مترا تحت الأرض. وقد أتاح ذلك السلاح للمقاتلين التنقل بحرية نسبيا بعيدا عن القصف، والتحرك في جميع أنحاء غزة دون تعريضهم للخطر أو للكشف من قِبَل الرصد الجوي، وكذلك إعادة إمداد القوات، وتخزين الأسلحة والصواريخ، وإخفاء الأسرى، وشن هجمات مفاجئة. ورغم أن إسرائيل سخَّرت ما تمتلكه من تكنولوجيا مثل أجهزة الاستشعار والكاميرات الحرارية لتحديد مواقع تلك الشبكة الغامضة، فإنها أخفقت في اكتشافها أو تدميرها كليا. على سبيل المثال، في أثناء معركة سيف القدس عام 2021، ركز الاحتلال على تدمير الأنفاق، واستطاع بالفعل تدمير 100 كيلومتر منها وفق تأكيداته، قبل أن يظهر رئيس المكتب السياسي للحركة “يحيى السنوار” ويُعلن أن 5% فقط من الأنفاق هي التي تضررت، وأن المقاومة شرعت في إصلاحها، كأن شيئا لم يكن (3) (4).
تُعَدُّ الأنفاق معضلة بالنسبة لتل أبيب، إذ لم تتمكن لوحدات المُختصة التي استحدثها الجيش الإسرائيلي من مهندسين وجيولوجيين من الوصول إلى حل جذري لها، ما يدفعها في كل مواجهة مع حماس إلى تأخير التدخل البري في قطاع غزة. كما أن عدم امتلاك الاحتلال قدرا كبيرا من المعلومات الاستخباراتية عن البنية التحتية لحماس في القطاع عقَّد الموقف وأوصله إلى حافة اليأس. وسبق وعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “نفتالي بينيت” خطة وحيدة لتطويق حماس، وإفقادها نقطة قوتها المتفردة، حيث قال إنه لا ينبغي للجيش الإسرائيلي التوغل عميقا في قطاع غزة، بل أن يكتفي بفرض حصار كامل يصل إلى خمس سنوات، مع عدم السماح لأي قطرة وقود بالدخول إلى القطاع بأكمله، فبدون وقود لا توجد أنفاق، حيث لن توجد تهوية ولا إضاءة، ومن ثمَّ سيضطر مقاتلو حماس للاستسلام. وتستخدم إسرائيل ذلك السلاح بالفعل الآن، حتى إنها لم تستجب حتى اللحظة للضغوط من أجل إدخال الوقود في ظل مخزون غزة الذي أوشك على النفاد، لكن إسرائيل تعتقد أن حماس ما زالت تمتلك مخزونا كافيا من الوقود لحرب طويلة، وهي معضلة أخرى (5).
بخلاف سلاح الأنفاق، ترى إسرائيل أن أهم نقاط قوة حماس هي تداخل بنتيها المدنية والعسكرية في قطاع ضيق تبلغ مساحته 365 كيلومترا مُربَّعا، ويكتظ بنحو مليونَيْ شخص، ما يجعل أي استهداف إسرائيلي كارثيا على المستوى الإنساني، ويجلب عليها الضغوط والإدانات الدولية، ويضع الأميركيين أمام مساءلة أخلاقية بصفتهم أكبر داعميها. بدأت تلك الأزمة في أعقاب حرب عام 1967، حين شن الاحتلال حملة على الفلسطينيين، وسعى إلى إفراغ القطاع من سكانه الذين نزحوا إليه بعد النكبة. وفي أثناء معركة “طوفان الأقصى”، ظهرت وثيقة استخباراتية إسرائيلية رأت في الحرب الدائرة فرصة لإجلاء قطاع غزة بأكمله، في إشارة إلى استمرار هَوَس الإسرائيليين بتهجير سكان القطاع لحل مُعضلة المقاومة الضاربة بجذورها في المجتمع الفلسطيني (6) (7).
نتيجة لذلك، طالما أبدت إسرائيل ترددا في وضع أهداف عسكرية كبرى فيما يتعلق بحركة حماس، مُكتفية بالقول إن الحروب التي خاضتها ضد الحركة كانت بهدف فرض القوة الكافية لردع المقاومة عن القيام بهجماتها دون الإطاحة بحماس بالكامل. ومع ذلك، كان من الواضح أن تل أبيب فشلت حتى في تحقيق هدفها المحدود المعلن، بعدما امتلكت الحركة قوة عسكرية لافتة، وأسلحة مكَّنتها من تقويض الردع الإسرائيلي، ولذا وجدت دولة الاحتلال نفسها أمام السيناريو الأسوأ وهو ضرورة احتلال القطاع لتحقيق أهدافها، وخوض حرب برية طويلة، رغم ما يحمله ذلك السيناريو من صعوبات على جيش الاحتلال (8).
تجهر إسرائيل هذه المرة برغبتها في القضاء على حركة حماس نهائيا، بيد أن كثيرين ومنهم رموز في الإدارة الأميركية ذاتها لا يشاركون إسرائيل هذا التفاؤل. أولا لأنها فشلت من قبل في تحقيق أهداف أضيق نطاقا في حروبها السابقة ضد قطاع غزة، وثانيا لأنها لا تمتلك رؤية متماسكة حول مصير قطاع غزة عقب الاجتياح الإسرائيلي، وثالثا والأهم أن هذا الاجتياح يتطلب من إسرائيل خوض نوع من الحروب طالما أثبتت فشلها في تحقيق النصر خلاله مرة بعد مرة.
الاحتلال وعُقدة الجماعات المُسلحة
تُشكِّل الجغرافيا عنصرا حاسما في تحديد مصير الهجوم البري الإسرائيلي على قطاع غزة، لأن تعقيدات المعركة في بيئة حضرية تختلف عن الحروب النظامية التقليدية، فقطاع غزة منطقة مكتظة بالسكان والمباني، وتوفر المباني مواقع قتالية مميزة للمدافعين، وحتى تحوُّلها إلى أنقاض عبر القصف الجوي المكثف يمكن أن يعوق تقدم الهجوم ويمنح المقاومة متاريس إضافية. وتتضاعف الصعوبات التي تواجهها إسرائيل أيضا بسبب وجود أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين الذين لا يملكون مكانا آخر يذهبون إليه. أضف إلى ذلك أن احتجاز حماس لنحو مئتي أسير يجعل الحكومة في وضع حرج أمام الرأي العام الإسرائيلي، لا سيَّما وقد مضت في الحرب البرية وتجاهلت مطالب أهالي الأسرى.
للاحتلال تجارب سيئة مع مواجهة الجماعات المُسلحة غير النظامية مُني فيها بفشل عسكري المرة تلو المرة. وقد بدأ ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 ثم من غزة نفسها عام 2005، وبلغ ذروته في حرب تموز مع حزب الله عام 2006 “أو عقدة تموز كما يُطلق عليها بعض الباحثين الآن”، ثم معركة “الرصاص المصبوب” عامَيْ 2008-2009، ومن بعدها عملية “الجرف الصامد” عام 2014. وفي الحربين الأخيرتين، توغَّل الجيش الإسرائيلي شمال غزة أثناء معركة برية اقتصرت على البحث عن الأنفاق العابرة للخط الفاصل وتدميرها، لكنها انتهت في المرتين بتراجع إسرائيل في نهاية المطاف دون انتصارات حاسمة. ولم تنجح الحملة الجوية في تدمير الأنفاق، ولم تستطع القوات البرية التي توغلت السيطرة على الميدان بعد اصطدامها بمقاومة عنيفة داخل شوارع وأحياء غزة.
تتشابه معركة “طوفان الأقصى” مع حرب تموز في لبنان عام 2006، حين شنَّت إسرائيل حربا على جنوب لبنان عقب أسر جنديَّيْن إسرائيليَّيْن، رغبة منها في الثأر والتخلُّص أيضا من تهديد صواريخ حزب الله. وقد بدأت إسرائيل هجمات جوية وبرية على لبنان واشتبكت مع قوات حزب الله، وألحقت بعض الأضرار ببنيته التحتية، لكنها واجهت أمام تفوقها العسكري النوعي استخدام حزب الله للأنفاق والملاجئ الصخرية، وشنِّه هجمات غير متوقعة أوجعت جيش الاحتلال، كما استفاد الحزب من المزارع الحدودية وزرع فيها القنابل والألغام، إلى جانب استخدام تشكيلات صاروخية هدفت إلى إرهاق الاحتلال وإبطاء حركته على الأرض. وبعد 34 يوما من القتال، خرجت إسرائيل مهزومة إستراتيجيا وقد خسرت 121 جنديا، واضطرت للقبول بوقف إطلاق النار، دون أن تتمكن من تحقيق الأهداف التي وضعتها في بداية الحرب، بما في ذلك تدمير بنية حزب الله، واقتلاع منظومة الصواريخ من جنوب لبنان (9) (10).
تريد حكومة نتنياهو اليوم تحقيق النصر العسكري في غزة بأي ثمن، وخاصة أن مصير نتنياهو نفسه قد ينتهي للأبد مع نهاية تلك الحرب إذا فشل في القضاء على حماس. ونتيجة واقع المعارك وضراوتها على الأرض، استدعى جيش الاحتلال 360 ألفا من جنود الاحتياط لأول مرة. وفي خضم الحرب، بات الاقتصاد الإسرائيلي في وضع حرج، حيث تشير الأرقام إلى أن العجز المالي بلغ نحو 6 مليارات دولار صعودا من 1.2 مليار دولار في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو نتيجة مباشرة للعملية العسكرية، التي دفعت الاحتلال لضخ كل موارده نحو الإنفاق العسكري. وتُعد الحروب الطويلة لهذا السبب واحدة من أكبر نقاط ضعف إسرائيل، إذ إن جيشها واقتصادها لا يحتملان حربا طويلة الأمد، رغم ما يروجه نتنياهو بأنه وضع خطة طويلة قد تمتد لأشهر.
أدوات القوة الإسرائيلية.. عاجزة عن الحسم
بخلاف تعقيدات الجغرافيا، ونوعية الأسلحة التي تمتلكها حماس، يواجه الاحتلال معضلة كبرى تجاه قطاع غزة، حيث لا تريد إسرائيل مهاجمة القطاع وإنهاء المعارك بعد تدمير البنية التحتية وقتل أكبر عدد ممكن من المقاومين وأبناء غزة عموما، دون أي ضمانة لطبيعة الحُكم على الأرض بعد انسحابها، إذ إن القدرات التنظيمية والعسكرية لتلك الفصائل ستعود من جديد كما هي العادة. ولذا تتجه إسرائيل الآن نحو السيناريو الصعب المتمثل في إعادة احتلال قطاع غزة مجددا، لكن أصعب ما في ذلك السيناريو ليس فقط ضرورة إلحاق الهزيمة الكاملة بحماس، وهو هدف شبه مستحيل بحسب خبراء عسكريين كُثُر، بل وغياب أي بديل حقيقي يحل محلها في ظل عدم ثقة السكان في السلطة الفلسطينية.
ورغم ذلك، ترى سلطات الاحتلال اليوم أنه لا مفر من احتلال غزة مجددا، وترك الجنود الإسرائيليين عُرضة لحرب غير نظامية قاسية من النوع الذي واجهوه في لبنان بين عامي 1982 و2000، وكذلك 2006، لكن الاختلاف هذه المرة هو امتلاك المقاومة لأسلحة باتت قادرة على المواجهة والردع بشكل أكثر كفاءة مما كانت عليه حالة المقاومة الفلسطينية في الثمانينيات أو العقد الأول من الألفية (11).
في الساعات الأولى لطوفان الأقصى اخترقت المقاومة السور الحديدي شديد التحصين، حيث أطلقت وابلا من الصواريخ الكثيفة بلغ نحو خمسة آلاف صاروخ صوب مختلف المستوطنات الإسرائيلية المتاخمة للقطاع، وذلك كي تنشغل القبة الحديدية باعتراضها، وكي لا تتعرف الأنظمة الدفاعية على الطائرات المسيرة التي كانت لتظهر على الرادار. وفي غضون ذلك، استهدفت المُسيَّرات أبراج المراقبة ومراكز الاتصالات التي حدَّدتها حماس بدقة، ما أدى إلى إتلاف وتعطيل أنظمة متقدمة تمثل خط الدفاع الحدودي الأول، ثم تلاها تحرك القوات البرية بمعداتها إلى قلب الداخل الفلسطيني المُحتل (12).تشغيل الفيديومدة الفيديو 01 minutes 24 seconds01:24
بدت المفاجأة على شدتها أقل وقعا مما حدث بعد ذلك، فحين دفعت إسرائيل بفخر صناعتها العسكرية الدبابة المِيركافا المُزوَّدة بنظام اعتراض صواريخ ونظام ذكاء اصطناعي، وجدت المقاومة نقطة ضعفها المتمثلة في استهداف الفتحة الخلفية وخزان الذخيرة، وكذلك المسافة بين البرج والبدن، وبطن الدبابة، والدروع على جانب الهيكل بالقرب من المقدمة. وتكمُن المفارقة في أن تفجير هذه النقاط جاء عبر سلاح جديد قلب معادلة القوة في الوقت الضائع من الحرب: قذائف الياسين (13).
صنعت القسام قذيفة “الياسين 105” المضادة للدروع، واستخدمتها لأول مرة في معركة “طوفان الأقصى”، وهي عبارة عن قذيفة “آر بي جيه” محمولة على الكتف، ورغم أن أصلها روسي، فإن المقاومة أصدرت نسختها الخاصة الأشد تدميرا عبر تطوير قذيفة “تاندوم 85” الروسية، وهي ذات رأس تدمير مزدوجة، تحتوي على حشوتين تنفجران عبر مرحلتين، الأولى تنفجر وتخرق الدرع الخارجي، والثانية تخترق فولاذ الدبابة وتنفجر بداخلها. ورغم أن مداها المؤثر يصل إلى 150 مترا فقط، فإن ذلك هو كل ما تحتاج إليه حماس في حربها الحالية كي تجعل من سلاحها ذعرا للدبابات والمدرعات الإسرائيلية.تشغيل الفيديومدة الفيديو 01 minutes 13 seconds01:13
يُضاف إلى إنجازات المقاومة على الأرض قدرتها على تشويش القبة الحديدية التي لم تتصور إسرائيل أن تنجح القسام في اختراقها، وأن تصل صواريخها إلى وسط تل أبيب. لكن النظام الدفاعي الإسرائيلي فشل في التصدي للمقذوفات الصغيرة المدى، إلى جانب عجزه حين استهدافه بأعداد أكبر من قدرته على الاعتراض. وبخلاف الانتقادات الموجهة للقبة الحديدية بارتفاع تكلفة الصاروخ الواحد الذي يصل إلى خمسين ألف دولار أميركي، فإن التكتيك الأخطر لإضعافها يتمثل في مواصلة إطلاق صواريخ قصيرة المدى مكثفة على مدار أيام، وهو ما يتسبب في إنهاكها فعليا.
——————————————————
اهلا سهلا بكم
إعلام عبري: إدارة بايدن تؤجل شحنة تضم 20 ألف قنبلة ثقيلة لإسرائيل
ما نوعية الصاروخ الذي ضرب تل أبيب؟ وما أسباب الفشل باعتراضه؟
مقتل 6 من لواء غولاني بكمين لحزب الله من المسافة صفر جنوب لبنان