نوفمبر 25, 2024

اذاعه سياسيه اخباريه ثقافيه تهتم بالشأن العالمي والعربي والعراقي

57 تجربة نووية.. جريمة فرنسا المسكوت عنها في صحراء الجزائر


تُمثِّل الصحراء في مخيلة الكثيرين ذلك المكان الواسع الرحب، الذي تنجلي فيه البصيرة، وينشرح فيه القلب باعتزال الناس، فيخلو الأمر للمتأمل لينظر في حال نفسه والآخرين. قد يكون هذا الوصف حقيقيا وصادقا عندما يتعلق بالصحاري مترامية الأطراف الموجودة في كل بقاع العالم، لكنه قطعا لا ينطبق على منطقة رقان بالصحراء الجزائرية التي يرتبط اسمها بالتشوهات الخلقية والسرطان والأمراض المزمنة، بعد أن كانت المنطقة مسرحا للتجارب النووية الفرنسية في عهد كانت تتلهَّف فيه باريس للانضمام إلى القوى النووية.

رغم مرور زهاء ستة عقود على استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي، تظل ملفات الإرث الاستعماري عالقة بين البلدين، ولعل ملف التجارب النووية يُعَدُّ من أهم النقاط الخلافية بين حكومتَيْ باريس والجزائر العاصمة، خصوصا أن معاناة سكان المناطق التي احتضنت هذه التجارب ما زالت قائمة حتى يومنا هذا

عندما كانت النيران تلتهم مدينتَيْ هيروشيما وناغازاكي اللتين تعرَّضتا لقصف أميركي بالقنابل النووية في الحادثة الشهيرة، كان الجنرال شارل ديغول، أحد أهم رجال الجمهورية الفرنسية، يرسم في خياله أحلاما وردية لبلاده وهي تحوز السلاح النووي، حتى تتمكَّن هي الأخرى من فرض نفسها دولة قوية في عالم لا يعترف إلا بالبأس العسكري الشديد. جاء قرار ديغول باتخاذ هذه الخطوة سريعا في أكتوبر/تشرين الأول 1945، أي بعد شهرين فقط من الحادثة النووية التي أنهت الحرب العالمية الثانية.

على الفور، أصدر الجنرال الفرنسي أوامره بإنشاء محافظة للطاقة الذرية الفرنسية بهدف صناعة القنبلة النووية، التي كانت من وجهة نظره الضامن الوحيد لقدرة باريس على البقاء مستقلة في خضم الحرب الباردة الدائرة بين واشنطن وموسكو. تضمَّنت هذه العملية ثلاث مراحل ما بين عامَيْ 1945-1960، وبعد انتهائها، كانت فرنسا في حاجة إلى فضاء كبير يمكنها من خلاله تجريب النتيجة النهائية لهذا السلاح الذي عملت عليه طيلة عقد ونصف، ووقع اختيارها على صحراء الجزائر.

لم يكن اختيار باريس للجزائر لتشهد هذا الحدث المرعب مفاجئا. فمنذ أواخر الخمسينيات، قرَّرت السلطات الفرنسية أن تكون صحراء الجزائر مسرحا لعمليات تفجير القنبلة النووية التي تعمل عليها. ونتيجة لذلك، في يناير/كانون الثاني 1957، زار الجنرال “شارل إيلغيي” المناطق المرشَّحة من أجل اختيار المكان الأصلح للقيام بالتجارب الأولى، حيث أعدَّ تقريرا تقنيا خلص إلى أن منطقة تنزروفت جنوب البلاد هي الأنسب لاحتضان هذا النوع من التجارب. ودوليا، قالت فرنسا على منبر الأمم المتحدة إنها اختارت الصحراء الجزائرية للقيام بتجاربها النووية كون المنطقة مهجورة وقاحلة وغير مأهولة بالسكان.

دون تأخير، شرعت فرنسا في إعداد هذه المنطقة الصحراوية لتجربتها، فقد أصدرت في جريدتها الرسمية يوم 10 مايو/أيار 1957 مرسوما حول تخصيص مساحة 108 ألف كيلومتر مربع على بُعد 40 كلم من مدينة رقان لإنشاء مركز عسكري صحراوي. ضمَّ هذا المركز 10 آلاف شخص من المدنيين والعسكريين، 6500 منهم من العلماء والمهندسين والجنود الفرنسيين، و3500 منهم من العمال الجزائريين وبعض السجناء الذين استعانت بهم.

وبحلول يونيو/حزيران 1958، أكَّد الجنرال ديغول نفسه انطلاق عمليات تجربة السلاح النووي الفرنسي. لم تكن المهمة سهلة طبعا، فلكي ترى القنبلة النووية الفرنسية النور، كان يجب في البداية تجاوز الخلافات في وجهات النظر بين العسكريين وبين العلماء الذين يعملون على تطوير هذا المشروع، كما كانت الدبلوماسية الفرنسية أمام مهمة صعبة لإقناع هيئة نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة، دون نسيان أن بدء عمليات تجريب السلاح النووي الفرنسي كان في أوج الكفاح الجزائري ضد القوة الاستعمارية الفرنسية.

انطلقت التجارب النووية الفعلية في 13 فبراير/شباط 1960، حينها فجَّر الجيش الفرنسي أول قنبلة نووية تفوق قوتها بنحو 4 مرات القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة هيروشيما اليابانية. جنَّدت فرنسا كُتَّابا ومصورين سينمائيين من أجل إعلان ذلك الخبر المهم: البلاد تلتحق رسميا بكلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي وبريطانيا بوصفها رابع قوة نووية على الأرض. ولكن رغم تأكيد المسؤولين في باريس أن الأمور جرت كما خُطِّط لها، وأن التوقعات التقنية جاءت مطابقة للتنفيذ على أرض الواقع كما أفاد بيير ميسمير، وزير الدفاع الفرنسي حينها الذي قال إنه ليس هنالك خطر على المدن القريبة ولا البعيدة، لكن الحقيقة كانت مختلفة للغاية، فقد كشف “إيف روكار”، وهو عالم فيزياء كان يعمل على مشروع القنبلة النووية، أن الكثير من إجراءات الإطلاق فشلت “لأن جزءا حساسا من العملية أُسند إلى مجموعة من الشباب المبتدئين قليلي الخبرة”.

شكَّلت القنبلة الأولى بداية سلسلة طويلة من التجارب النووية التي وصل عددها إلى 57 تجربة فُجِّر خلالها 17 قنبلة نووية، أربع منها بالجو وكانت ملوثة للغاية، ثم بعد ذلك 13 قنبلة باطنية وسط الجبال، حيث اضطرت فرنسا لهذا النوع من التجارب بعد ضغط دولي وتخوُّف من أن تخالف التجارب طريق النجاح فتكون التكلفة المادية والبشرية عالية.

YouTube
YouTube